فصل: فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها‏.‏

وقيل‏:‏ بل هي توفيت قبله والمشهور الأول، وهذان المشفقان؛ هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه‏.‏

وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً‏.‏

فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك‏)‏‏)‏‏.‏

ويقول بين ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏ما نالتني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق قبل ذلك‏:‏ أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته إذا نصبت له‏.‏

قال‏:‏ فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله، عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد مناف أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشاً ثقله قالت قريش بعضها لبعض‏:‏ إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال‏:‏ لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه - عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/152‏)‏‏.‏

فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال يا ابن أخي‏:‏ هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ نعم وأبيك، وعشر كلمات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه‏)‏‏)‏‏.‏

فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد‏:‏ أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحداً ‏؟‏‏!‏ إن أمرك لعجب‏.‏

قال‏:‏ ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا‏.‏

قال‏:‏ فقال أبو طالب‏:‏ والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططاً‏.‏

قال‏:‏ فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له‏:‏ ‏(‏‏(‏أي عم فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها‏.‏

قال‏:‏ فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه، قال فقال‏:‏ يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها‏.‏

قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لم أسمع‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1-2‏]‏ الآيات‏.‏ وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلماً بقول العباس هذا الحديث؛ يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها - يعني لا إله إلا الله -

والجواب عن هذا من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن في السند مبهماً لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن جرير نحواً من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير فذكره، ولم يذكر قول العباس‏.‏

ورواه الثوري أيضاً عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس‏.‏

ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير أيضاً‏.‏

ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏

مرض أبو طالب فجاءت قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال‏:‏ يا ابن أخي ما تريد من قومك‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/153‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ما هي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقالوا‏:‏ أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ‏!‏

قال‏:‏ ونزل فيهم‏:‏ ‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏}‏‏[‏ص‏:‏ 1-7‏]‏‏.‏

ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلاً‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه‏:‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لأستغفر لك مالم أُنهَ عنك‏)‏‏)‏‏.‏

فنزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏

ونزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ورواه مسلم‏:‏ عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق‏.‏

وأخرجاه أيضاً من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه‏:‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال‏:‏ على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما لأستغفرن لك مالم أُنهَ عنك‏)‏‏)‏‏.‏

فأنزل الله - يعني بعد ذلك -‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى‏}

ونزل في أبي طالب‏:‏ ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}

وهكذا روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك‏.‏

فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏}‏‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وهكذا قال عبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، وقتادة‏:‏ إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال‏:‏ هو على ملة الأشياخ، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب‏.‏

ويؤكد هذا كله ما قال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال‏:‏ حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/154‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ من طرق عن عبد الملك بن عمير به‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث الليث‏:‏ حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‏)‏‏)‏‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏تغلي منه أم دماغه‏)‏‏)‏‏.‏

وروى مسلم‏:‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أهون أهل النار عذاباً أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي ‏(‏مغازي‏)‏ يونس بن بكير ‏(‏‏(‏يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه‏)‏‏)‏‏.‏ ذكره السهيلي‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ حدثنا عمرو - هو ابن إسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر‏.‏

قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرجته من النار إلى ضحضاح منها‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به البزار‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم أسمع‏)‏‏)‏ لأن العباس كان إذ ذاك كافراً غير مقبول الشهادة‏.‏

قلت‏:‏ وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم‏.‏

ومما يدل على ذلك‏:‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفساً إيمانها والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق‏:‏ سمعت ناجية بن كعب يقول‏:‏ سمعت علياً يقول‏:‏ لما توفي أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إن عمك قد توفي‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فواره‏)‏‏)‏‏.‏

فقلت‏:‏ إنه مات مشركاً‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فواره‏)‏‏)‏ ولا تحدثن شيئاً حتى تأتي‏.‏

ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل‏.‏

ورواه النسائي‏:‏ عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة‏.‏

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي‏:‏ لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله‏:‏ إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏‏.‏ فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/155‏)‏‏.‏

وقال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وصلتك رحم، وجزيت خيراً يا عم‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وزاد ولم يقم على قبره‏.‏

قال‏:‏ وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه‏.‏

قلت‏:‏ قد روى عنه غير واحد منهم‏:‏ الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي‏:‏ ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة‏.‏

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربياً مقاربتها ولا معارضتها‏.‏

وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه‏.‏

وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ وشاهد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون‏}

وقال تعالى في قوم فرعون‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏}

وقال موسى لفرعون‏:‏ ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً‏}‏

وقول بعض السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏}‏ أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق‏.‏

فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم‏.‏

والأظهر والله أعلم‏:‏ الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به‏.‏

وبهذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضاً به‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25-26‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/156‏)‏‏.‏

وهذا اللفظ وهو قوله ‏(‏وهم‏)‏ يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏ يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها‏.‏

ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه‏.‏

 فصل موت خديجة بنت خويلد

وذكر شيء من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها، وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشَّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

قال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة‏.‏

ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال‏:‏ توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام‏.‏

ذكره عبد الله بن منده في كتاب ‏(‏المعرفة‏)‏، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/157‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة‏.‏

قال‏:‏ أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله‏:‏ هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال‏:‏ قلت لعبد الله بن أبي أوفى‏:‏ بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب‏.‏

ورواه البخاري أيضاً، ومسلم من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد به‏.‏

قال السهيلي‏:‏ وإنما بشَّرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوماً من الدهر فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته أبداً‏.‏

وأخرجاه في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها - وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن‏.‏ لفظ البخاري‏.‏

وفي لفظ عن عائشة‏:‏ ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب‏.‏

وفي لفظ له قالت‏:‏ ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وما رأيتها - ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت‏:‏ كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/158‏)‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم هالة‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فغرت فقلت‏:‏ ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها‏.‏

وهكذا روى مسلم، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به‏.‏

وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلاً وإما عشرةً إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها‏.‏ ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله‏.‏

ولكن قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك - هو ابن عمير -، عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت‏:‏ لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين‏.‏

قال‏:‏ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمةً أو عذاباً‏.‏

وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير به‏.‏

وزاد بعده قوله‏:‏ حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول‏.‏

قال‏:‏ قال‏:‏ فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذاباً‏.‏

تفرد به أحمد، وهذا إسناد جيد‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضاً‏:‏ عن ابن إسحاق‏:‏ أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء‏.‏

قالت‏:‏ فغرت يوماً فقلت‏:‏ ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أبدلني الله خيراً منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء‏)‏‏)‏‏.‏

تفرد به أحمد أيضاً، وإسناده لا بأس به‏.‏

ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور، والله أعلم‏.‏

ولعل هذا أعني قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء‏)‏‏)‏‏.‏

كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين‏.‏

فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها‏.‏

وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيراً عشرة وهو محتمل أو ظاهر‏.‏

وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيراً منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة؛ فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل كما قال‏:‏ ‏{‏فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏ الآية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/159‏)‏‏.‏

وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديماً وحديثاً، وبجانبها طرقاً يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم ولا يعدلون بخديجة أحداً من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم - منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراماً لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصدِّيقات ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضاً ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة؛ فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحداً من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علماً جماً كثيراً طيباً مباركاً فيه‏.‏

حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏‏(‏خذوا شطر دينكم عن الحميراء‏)‏‏)‏‏.‏

والحق أن كلاً منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز وجل‏.‏

ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الأقوم، والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد‏)‏‏)‏ أي‏:‏ خير زمانهما‏.‏

وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث‏:‏ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/160‏)‏‏.‏

رواه ابن مردويه في ‏(‏تفسيره‏)‏ وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده‏.‏

قالوا‏:‏ والقدر المشترك بين الثلاث نسوة؛ آسية ومريم وخديجة أن كلاً منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته‏.‏

فآسية‏:‏ ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث‏.‏

ومريم‏:‏ كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل‏.‏

وخديجة‏:‏ رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏ هو ثابت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق شعبة أيضاً، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبي موسى الأشعري‏.‏

قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏)‏‏.‏

والثريد‏:‏ هو الخبز واللحم جميعاً، وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء‏:‏

إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد

ويحمل قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفضل عائشة على النساء‏)‏‏)‏ أن يكون محفوظاً فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاماً فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم‏.‏

 فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما‏.‏

والصحيح أن عائشة تزوجها أولاً كما سيأتي‏.‏

قال البخاري في باب تزويج عائشة‏:‏ حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام، مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه‏)‏‏)‏‏.‏

قال البخاري باب نكاح الأبكار‏.‏

وقال ابن أبي مليكة‏:‏ قال ابن عباس لعائشة‏:‏ لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرك‏.‏

حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في التي لم يرتع منها‏)‏‏)‏ تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/161‏)‏

انفرد به البخاري ثم قال‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي‏:‏ هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب؛ فإذا هي أنت، فقلت‏:‏ إن يكن هذا من عند الله يمضه‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏أريتك في المنام ثلاث ليال‏)‏‏)‏‏.‏

وعند الترمذي‏:‏ أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال‏:‏ هذه زوجتك في الدنيا والآخرة‏.‏

وقال البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن يزيد، عن عراك، عن عروة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر‏:‏ إنما أنا أخوك‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال‏)‏‏)‏‏.‏

هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها‏.‏

وهذا من إفراد البخاري رحمه الله‏.‏

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة، وهذا غريب‏.‏

وقد روى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين فلبث سنتين - أو قريباً من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين‏.‏

وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر‏.‏

وقوله‏:‏ تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في ‏(‏الصحاح‏)‏ وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة‏.‏

وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر‏.‏

فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال‏:‏ حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين - فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيآنني وصنعنني، ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين‏.‏

فقوله في هذا الحديث‏:‏ - متوفى خديجة - يقتضي أنه على أثر ذلك قريباً، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج

فوعكت فتمزق شعري، وقد وفت لي جميمة، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئاً من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/162‏)‏

قال‏:‏ فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن‏:‏ على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحىً، فأسلمنني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين‏.‏

وقال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين‏:‏ حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت‏:‏ يا رسول الله ألا تزوج‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمن البكر‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن الثيب‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذهبي فاذكريهما علي‏)‏‏)‏‏.‏

فدخلت بيت أبي بكر فقالت‏:‏ يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة‏؟‏

قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة‏.‏

قالت‏:‏ انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت‏:‏ يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ‏؟‏

قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة‏.‏

قال‏:‏ وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ارجعي إليه فقولي له‏:‏ أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي‏)‏‏)‏‏.‏

فرجعت فذكرت ذلك له‏.‏

قال‏:‏ انتظري وخرج‏.‏

قالت أم رومان‏:‏ إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعداً قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت‏:‏ يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك‏؟‏

فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي‏:‏ أقول هذه تقول ‏؟‏

قال‏:‏ إنها تقول ذلك‏.‏

فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعده، فرجع فقال لخولة‏:‏ ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين‏.‏

ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت‏:‏ ما أدخل الله عليك من الخير والبركة‏؟‏

قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه‏.‏

قالت‏:‏ وددت، ادخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخاً كبيراً قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية‏.‏

فقال‏:‏ من هذه‏؟‏

قالت‏:‏ خولة بنت حكيم‏.‏

قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏

قالت‏:‏ أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة‏.‏

فقال‏:‏ كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك‏؟‏

قالت‏:‏ تحب ذلك‏.‏

قال‏:‏ ادعيها إلي، فدعتها‏.‏

قال‏:‏ أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل بخطبتك وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/163‏)‏

قالت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ادعيه لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثي على رأسه التراب‏.‏

فقال بعد أن أسلم‏:‏ لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح‏.‏

قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من الماء‏.‏

ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت‏:‏ هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك‏.‏

فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنة تسع سنين‏.‏

وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار‏:‏ حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله‏:‏ ألا تزوج‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من البكر ومن الثيب‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك‏:‏ عائشة، وأما الثيب‏:‏ فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاذكريهما علي‏)‏‏)‏‏.‏ وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم‏.‏

وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدماً على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم، وكما سيأتي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة‏.‏

قالت‏:‏ لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لي بيومها مع نسائه‏.‏

قالت‏:‏ وكانت أول امرأة تزوجها بعدي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، حدثني عبد الله بن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة، وكانت مصبية كان لها خمس صبية - أو ست من بعلها - مات‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يمنعك مني‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/164‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهل منعك مني غير ذلك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ لا والله‏.‏

قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم‏.‏

ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه‏.‏

هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدماً على العقد بسودة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل‏.‏

ورواه يونس، عن الزهري، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عبيد‏.‏

قال‏:‏ ورواه عقيل عن الزهري‏.‏

 فصل اجتراء قريش على رسول الله بعد وفاة عمه أبي طالب‏.‏

قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ناصراً له وقائماً في صفه ومدافعاً عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه‏.‏

كما قد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم‏:‏ حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر‏.‏

قال‏:‏ لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك‏)‏‏)‏‏.‏

ويقول ما بين ذلك‏:‏ ‏(‏‏(‏ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا‏)‏‏)‏‏.‏

قد رواه زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً، والله أعلم‏.‏

وروى البيهقي أيضاً، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/165‏)‏

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة المجدر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صغير، وحكيم بن حزام أنهما قالا‏:‏ لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال‏:‏ يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعاً إذ كان أبو طالب حياً فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت‏.‏

وسبَّ ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال‏:‏ ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد‏.‏

فقالوا‏:‏ لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياماً يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له‏:‏ أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ‏؟‏

فقال له أبو لهب‏:‏ يا محمد أين مدخل عبد المطلب ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏مع قومه‏)‏‏)‏‏.‏

فخرج إليهما فقال‏:‏ قد سألته فقال‏:‏ مع قومه‏.‏

فقالا‏:‏ يزعم أنه في النار‏.‏

فقال‏:‏ يا محمد أيدخل عبد المطلب النار ‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار‏)‏‏)‏

فقال‏:‏ أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدواً أبداً وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته‏:‏ أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص‏.‏

وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئاً من ذلك يحمله على عود، ثم يقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد مناف أي جوار هذا‏؟‏‏)‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.‏

قلت‏:‏ وعندي أن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي‏.‏

كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم‏.‏

وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلاً‏:‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏؟‏

وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، والله أعلم‏.‏

فذكرها ههنا أنسب وأشبه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/166‏)‏

 فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي‏.‏

قال‏:‏ انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة‏:‏ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف‏.‏

وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه‏.‏

فقال أحدهم‏:‏ هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك‏.‏

وقال الآخر‏:‏ أما وجد الله أحداً أرسله غيرك‏؟‏

وقال الثالث‏:‏ والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -‏:‏ ‏(‏‏(‏إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي‏)‏‏)‏‏.‏

وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه‏.‏

ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف‏.‏

وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏ماذا لقينا من أحمائك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فلما اطمأن قال - فيما ذكر -‏:‏

‏(‏‏(‏اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/167‏)‏

قال‏:‏ فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً نصرانياً يقال له‏:‏ عداس، وقالا له‏:‏ خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس‏.‏

ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له‏:‏ كل‏.‏

فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال‏:‏ والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نصراني وأنا رجل من أهل نينوى‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من قرية الرجل الصالح يونس بن متى‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له عداس‏:‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي‏)‏‏)‏‏.‏

فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه‏.‏

قال‏:‏ يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له‏:‏ ويلك يا عداس ‏!‏ مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ‏؟‏

قال‏:‏ يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي‏.‏

قالا له‏:‏ ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه‏.‏

وقد ذكر موسى بن عقبة نحواً من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء، وزاد‏:‏ وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله‏.‏

ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، عن أبي بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه‏:‏ أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ حتى ختمها‏.‏

قال‏:‏ فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام‏.‏

قال‏:‏ فدعتني ثقيف فقالوا‏:‏ ماذا سمعت من هذا الرجل‏؟‏

فقرأتها عليهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/168‏)‏

فقال من معهم من قريش‏:‏ نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقاً لاتبعناه‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ من طريق عبد الله بن وهب‏:‏ أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته‏:‏ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال‏:‏

إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم علي ثم قال‏:‏ يا محمد ‏!‏ قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل سماع الجن لقراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين وأنزل الله تعالى فيهم قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم‏.‏

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وازداد قومه عليه حنقاً وغيظاً وجرأةً وتكذيباً وعناداً، والله المستعان وعليه التكلان‏.‏

وقد ذكر الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/169‏)‏

فقال‏:‏ إن حليف قريش لا يجير على صميمها، ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال‏:‏ إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال‏:‏ نعم قل له‏:‏ فليأت‏.‏

فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعاً، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال‏:‏ أمجير أو تابع‏؟‏

قال‏:‏ لا بل مجير‏.‏

قال‏:‏ إذاً لا تخفر، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو سفيان إلى مجلسه‏.‏

قال‏:‏ فمكث أياماً، ثم أذن له في الهجرة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير‏.‏

فقال حسان بن ثابت‏:‏ والله لأرثينه فقال فيما قال‏:‏

فلو كان مجد مخلد اليوم واحد * من الناس نحي مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوماً إذا ما تجشما

وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما

إباءً إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

قلت‏:‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أسارى بدر‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان المطعم بن عدي حياً ثم سألني في هؤلاء النقباء لوهبتهم له‏)‏‏)‏‏.‏

 فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/170‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلي - ومن حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال‏:‏ سمعت ربيعة عباد يحدثه أبي قال‏:‏ إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول‏:‏

‏(‏‏(‏يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل‏:‏ يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه‏.‏

قال‏:‏ فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول‏؟‏

قال‏:‏ هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب‏.‏

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه‏:‏ أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهلياً فأسلم‏.‏

قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا‏)‏‏)‏‏.‏ والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول‏:‏ إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب‏.‏

فسألت عنه فقالوا‏:‏ هذا عمه أبو لهب‏.‏

ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الدئلي‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول‏:‏ أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم‏.‏

قلت‏:‏ من هذا‏؟‏

قالوا‏:‏ هذا أبو لهب‏.‏

وكذا رواه أبو نعيم في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه‏.‏

ثم رواه البيهقي من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا‏)‏‏)‏‏.‏

وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل وهو يقول‏:‏ يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى‏.‏

كذا قال في هذا السياق أبو جهل‏.‏

وقد يكون وهماً ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إذائه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني ابن شهاب الزهري‏:‏ أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/171‏)‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم‏:‏ بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم‏)‏‏)‏، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم‏.‏

وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم‏.‏

وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس‏:‏ والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب‏.‏

ثم قال له‏:‏ أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الأمر لله يضعه حيث يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال له‏:‏ أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ‏!‏ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه‏.‏

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم‏.‏

فقالوا‏:‏ جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا‏.‏

قال‏:‏ فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال‏:‏ يا بني عامر هل لها من تلاف‏؟‏ هل لذناباها من مطلب‏؟‏ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم ‏؟‏

وقال موسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أُكره أحداً منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء‏)‏‏)‏‏.‏

فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحداً من تلك القبائل إلا قال‏:‏ قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه ‏؟‏‏!‏ وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/172‏)‏

وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غداً حتى نقر في منازل قبائل الناس‏)‏‏)‏‏.‏

وكانت مجمع العرب قال‏:‏ فقلت‏:‏ هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك ‏؟‏

قال‏:‏ فبدأ بكندة فأتاهم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من أهل اليمن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي اليمن ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من كندة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي كندة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بني عمرو بن معاوية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فهل لكم إلى خير ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله‏)‏‏)‏‏.‏

قال عبد الله بن الأجلح‏:‏ وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له‏:‏ إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الملك لله يجعله حيث يشاء‏)‏‏)‏‏.‏

فقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما جئتنا به‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ فقالوا‏:‏ أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك‏.‏

فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بكر بن وائل‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي بكر بن وائل ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ من بني قيس بن ثعلبة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف العدد ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ كثير مثل الثرى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف المنعة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين، وتكبروه أربعاً وثلاثين‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن أنت‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا رسول الله‏)‏‏)‏‏.‏

ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي‏:‏ وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس‏:‏ لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا‏:‏ هل تعرف هذا الرجل‏؟‏

قال‏:‏ نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون‏؟‏

فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا‏:‏ زعم أنه رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ألا لا ترفعوا برأسه قولاً فإنه مجنون يهذي من أم رأسه‏.‏

قالوا‏:‏ قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر‏.‏

قال الكلبي‏:‏ فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه قالوا‏:‏ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ممن القوم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ من بني عامر بن صعصعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أي بني عامر بن صعصعة ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بنو كعب بن ربيعة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف المنعة فيكم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا‏.‏

قال‏:‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولاأُكره أحداً منكم على شيء‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن أي قريش أنت‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من بني عبد المطلب‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ فأين أنت من عبد مناف‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هم أول من كذبني وطردني‏)‏‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك‏.‏

قال‏:‏ فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال‏:‏ من هذا الرجل أراه عندكم أنكره‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/173‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ محمد بن عبد الله القرشي‏.‏

قال‏:‏ فما لكم وله‏؟‏

قالوا‏:‏ زعم لنا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه‏.‏

قال‏:‏ ماذا رددتم عليه‏؟‏

قالوا‏:‏ بالترحيب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا‏.‏

قال بحيرة‏:‏ ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدأ تم ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم‏.‏

ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك‏.‏

قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته‏.‏

وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت‏:‏ يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ‏؟‏

فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم‏:‏ غطيف، وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم‏.‏

وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ‏(‏مغازيه‏)‏ عن أبيه به‏.‏

وهلك الآخرون‏:‏ وهم بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل - لعنهم الله لعناً كثيراً -، وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم‏.‏

وقد روى أبو نعيم له شاهداً من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب

قال‏:‏ لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدماً في كل خير، وكان رجلاً نسابة‏.‏

فقال‏:‏ ممن القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ من ربيعة‏.‏

قال‏:‏ وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/174‏)‏‏.‏

قالوا‏:‏ بل من هامها العظمى‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ فمن أي هامتها العظمى أنتم‏؟‏

فقالوا‏:‏ ذهل الأكبر‏.‏

قال لهم أبو بكر‏:‏ منكم عوف الذي كان يقال له لاحر بوادي عوف‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم بسطام بن قيس‏:‏ أبو اللواء ومنتهى الأحياء ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأنتم أخوال الملوك من كندة‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأنتم أصهار الملوك من لخم‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال لهم أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر‏.‏

قال‏:‏ فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول‏:‏

إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله

يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت‏؟‏

قال‏:‏ رجل من قريش‏.‏

فقال الغلام‏:‏ بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش‏؟‏

فقال له‏:‏ رجل من بني تيم بن مرة‏.‏

فقال له الغلام‏:‏ أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة‏؟‏ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، وأنزل قريشاً منازلها فسمته العرب بذلك مجمعاً وفيه يقول الشاعر‏:‏

أليس أبوكم كان يدعى مجمعاً * به جمع الله القبائل من فهر

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة ‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر‏:‏

عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنون عجاف

سنُّوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف

الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/175‏)‏‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء ‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الإفاضة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الحجابة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الندوة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل السقاية أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفمن أهل الرفادة أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فمن المفيضين أنت‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده

فقال له الغلام‏:‏

صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حيناً وحيناً يرفعه

ثم قال‏:‏ أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب‏.‏

قال‏:‏ فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم‏.‏

قال علي‏:‏ فقلت له‏:‏ يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة

فقال‏:‏ أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول‏.‏

قال‏:‏ ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي‏:‏ وكان أبو بكر مقدماً في كل خير - فقال لهم أبو بكر‏:‏ ممن القوم‏؟‏

قالوا‏:‏ من بني شيبان بن ثعلبة‏.‏

فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم‏.‏

وفي رواية‏:‏ ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس‏.‏

وكان في القوم مفروق ابن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بياناً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر‏.‏

فقال له أبو بكر‏:‏ كيف العدد فيكم‏؟‏

فقال له‏:‏ إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة‏.‏

فقال له‏:‏ فكيف المنعة فيكم‏؟‏

فقال‏:‏ علينا الجهد ولكل قوم جد‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم‏؟‏

فقال مفروق‏:‏ إنا أشدُّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش‏؟‏

فقال أبو بكر‏:‏ إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/176‏)‏‏.‏

فقال مفروق‏:‏ قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما تدعو يا أخا قريش، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد‏)‏‏)‏‏.‏

قال له‏:‏ وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش‏؟‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏

فقال له مفروق‏:‏ وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش‏؟‏ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه‏.‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏

فقال له مفروق‏:‏ دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة‏.‏

فقال‏:‏ وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا‏.‏

فقال له هانئ‏:‏ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوماً نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة‏.‏

فقال‏:‏ وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا‏.‏

فقال المثنى‏:‏ قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به‏.‏

والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتِّباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة‏.‏

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما هذان الصريان‏؟‏

فقال له‏:‏ أما أحدهما‏:‏ فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر‏:‏ فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً‏.‏

ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول‏.‏

فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/177‏)‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له النعمان ابن شريك‏:‏ اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش‏!‏

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يدي أبي بكر‏.‏

قال علي‏:‏ ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال يا علي‏:‏ ‏(‏‏(‏أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال علي‏:‏ وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم‏.‏

قال‏:‏ فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏احمدوا الله كثيراً فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار وفيها يقول الأعشى‏:‏

فدى لبني ذُهلِ بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلَّت

هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت

فلله عيناً من رأى من فوارسٍ * كذهل بن شيبان بها حين ولت

فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت

‏(‏ج/ص‏:‏ 3/178‏)‏‏.‏

هذا حديث غريب جداً كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى

وفيه‏:‏ أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم‏:‏ اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال‏:‏ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفاً خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال‏:‏ وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا‏:‏ أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي‏.‏

فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ‏.‏

فقال القوم‏:‏ دعنا منك لا تعرضنا لما لا قِبل لنا به‏.‏

وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة فكلمه‏.‏

فقال ميسرة‏:‏ ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد‏.‏

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم‏.‏

فقال لهم ميسرة‏:‏ ميلوا نأتي فدك فإن بها يهوداً نسائلهم عن هذا الرجل‏.‏

فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفراً لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة مشرق اللون‏.‏

فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه‏.‏

فقال ميسرة‏:‏ يا قوم ألا إن هذا الأمر بيـِّن‏.‏

فقال القوم‏:‏ نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم‏.‏

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه‏.‏

فقال يا رسول الله‏:‏ والله ما زلت حريصاً على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله‏؟‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان‏.‏

وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم‏.‏

وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفاً صالحاً ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 3/179‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، أنا إسرائيل بن يونس، عن عثمان - يعني‏:‏ ابن المغيرة - عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل‏؟‏‏)‏‏)‏، فأتاه رجل من همدان، فقال‏:‏ ممن أنت‏؟‏

قال الرجل‏:‏ من همدان‏.‏

قال‏:‏ فهل عند قومك من منعة‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل ‏!‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب‏.‏

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏